محرة أمل

في محاولة أخيرة للفكاك من الجلبة والضجيج هنا في الداخل من الذات ، في مجرتي أمنح نفسي الحرية لأطلق سراح مخيلتي وأفكاري .. فمرحبا بكل الأنسانيين في فضاءات مدونتي



سكيولوجية الفن والأدب ( الموسوعة النفسية للدكتور عبد المنعم الحفني ) الجزء الأول
الكثير من الاعمال الأدبية والفنية المعاصرة يتصل بناؤها بعلم النفس وكشوفه ومجالاته بأسباب قوية ، وينصرف الأدب إلى استجلاء النفس البشرية ، وهو نفس الهدف الذي يترسمه علم النفس ، وكلما تقدمت البحوث في علم النفس فإن ذلك له انعكاساته على الكتابات الأدبية ، وخاصة في مجال الدراما بفرعيها الرواية والمسرحية ، وكانت شهرة بعض الروايات أو المسرحيات سببا في اتخاذ علم النفس من بعض أسماء شخوصها أو مؤلفيها مسميات لانحرافات أو اضطرابات نفسية اشتهرت بها ، فالسادية نسبة إلى الماركيز دي ساد الكاتب الفرنسي الذي تخصص في وصف حالات الأشخاص الذين يعانون من العنف الداخلي ، ويستمدون لذة من إنزال الألم بالآخرين ، الماسوكية نسبة إلى ليوبولد فون ساخر ماسوك أو ماسوخ ، الكاتب النمسوي الذي كانت شخوص روايته واغلة في الجنس وتجد لذة من معاناة الآلام التي ينزلها بها الآخرين ، وتشتهر العقد النفسية بأسماء بأسماء شخصيات درامية من أعمال كبيرة لسوفوكل ويوروبيدس وغيرهما ، فهناك عقدة أوديب نسبة إلى الملك أوديب ، الشخصية الأسطورية ، صاحب أروع مأساة في تاريخ المسرحية اليونانية ، وكذلك عقد أوريست ، وكليتمنسترا ، وأليكترا وجوكاستا ، وميديا ، وفيدرا ، وجميعها تناولها المسرحيون الكبار : اسخيلوس وسوفوكليز ، ويوروبيدس ، ويقتبس علماء النفس أسماء مشهورة من الأدب الأسطوري والديني مثل عقدة قابيل ، وعقدة ديانا ، وعقدة إخوة يوسف ، وعقدة سارة زوجة إبراهيم عليه السلام ، وهناك دراسات نفسية لروايات ومسرحيات مشهورة مثل مدام بوفاري لفلوبير ، ويطلقون على الحالة النفسية التي تتسم بها اسم البوفارية ، وبعض الروايات هي دراسات نفسية خالصة لاضطرابات معروفة مثل الجريمة والعقاب لديستوفسكي وكان روائيا له بصيرة نفسية نافذة ، وعلم ودراية بالنفسية الانسانية وانحرافاتها وشذوذها .

وهناك مسرحيات لكتاب مشهورين مثل هنريك أبسن أفادت من نظريات علم النفس وإن كان أبسن وغيره من الموهوبين لا يظهر تأثرهم بالاتجاهات العلمية السيكولوجية مباشرة ، وتدور معظم مسرحيات أبسن على أفكار ترتبط بالوراثة ، مثل الأشباح وعدو الشعب وبيت الدمية ، ونعلم أن الجدال ما يزال بين أصحاب نظرية الوراثة ونظرية البيئة ، حول تشكيل النفس الإنسانية وميولها ونوازعها واهتماماتها ، وكان الأدب كاشفا لخبايا النفس التي يمكن أن تحتجب عن الناس في تعاملهم اليومي بسبب الغفلة التي يكونون عليها ، حيث لا تتطلب تعاملاتهم كبير دراية بالنفس ، ويميل الأفراد إلى فهم الناس باعتبارهم أنماطا وميزة الأديب أنه أنسان يخترق الحجب وينزع الأقنعة ويعري الأشخاص وأهدافهم ويناقش قيمهم السلوكية ، ويطرح ذلك من خلال العلاقات الشخصية البيئية ، والاحتكاكات والمماحكات والصراعات وتبادل الأفكار ومطارحة الأقوال ، وإذا كنا كبشر نميل إلى تبسيط الأمور ورد الكثرة إلى الوحدة في معاملاتنا ونميل إلى التجريد والعموميات ، فإن الأديب على العكس لا يكرر الشخصية ، ويصورها متميزة ، بتفاصيلها ورغباتها وعواطفها وآمالها وآلامها وطموحاتها ، وعالم الأديب هو عالم أفراد متكثرة ، وطريقة الأدب هي الاصطفاء من الواقع واختيار ما يخدم الرؤية الفنية من الأحداث والوقائع وكل أديب ينحصر اهتمامه بالواقع وإدراكه ومن ثم له رؤياه الخاصة على عكس الإنسان العادي غير الأديب الذي تتوجه اهتماماته للواقع إلى ما يشبع حاجاته ، ويفهم من الناس بقدر ما ييسر له التعامل معهم ، بينما الأديب يدرك الأفراد لذواتهم ، ويحيط بالواقع من علاقاته بهم سلبا وإيجابا ، وإذا كان بعضنا قد يغلب على اهتمامه بالحياة الجانب الحسي العملي ، أو العقلي أو الأخلاقي أو الديني ، فإن الأديب يغلب عليه الجانب الجمالي ، إلا أنه أيضا يمكن أن يكون له أي من الجوانب السابقة ، أو أن يكون في نفس الوقت حسيا عمليا ، أو عقلانيا أو أخلاقيا أو متدينا صوفيا ، وأن تكون له إشراقات ميتافيزيقية ، ولعل ذلك يفسر وجود رسالات اجتماعية لبعض الأدباء كتولستوي مثلا أو نجيب محفوظ ، أو يوسف السباعي ، أو يكتبون بإلهامات دينية كفرانز كافكا ، وعبد الرحمن الشرقاوي ، وقد كان الكثير من المتصوفة شعراء كرابعة العدوية ، البوصيري ، ابن عربي ، أبو العلاء المعري ، الحلاج . وكما نفرق بين عالم الأديب وعالم غير الأديب ، فكذلك نفرق بين عوالم الأدباء فمنهم من يكون شاعرا أو روائيا أو مسرحيا وهذا التخصص يفسره علم النفس بأنه ظاهرة نفسية وتعويض عن طموحات ورغبات أساسية ، لم يشبعها الأديب في حياته بسبب عوائق من داخله أو خارجه . والأدب على ذلك تعويض يتسامى به صاحبه عن الواقع الغير المفهوم والمختلط والمتشابك .

زوار مجرتي

free counters
تعريب وتطوير حسن