محرة أمل

في محاولة أخيرة للفكاك من الجلبة والضجيج هنا في الداخل من الذات ، في مجرتي أمنح نفسي الحرية لأطلق سراح مخيلتي وأفكاري .. فمرحبا بكل الأنسانيين في فضاءات مدونتي



من روائع مقالات نوال السعداوي
الدكتورة سهير القلماوي كما عرفتها

كنت طفلة في المدرسة الابتدائية ، حين سمعت صوتها في الراديو ، صوت قوي ممتليء يشبه صوت أم كلثوم ، إلا إنها لا تغني ، لكن تتحدث في الأدب والثقافة وتعليم المرأة .

كان الراديو في الأربعينات جهازا سحريا ( مثل الانترنت اليوم ) ، والأصوات تخرج منه شبه سحرية ، إلا تللك الأحاديث عن الطبخ والتدبير المنزلي ، كنت أهرب منها إلى الأدب والفن ، أحرك مفاتيح الراديو لأسمع أم كلثوم وطه حسين وسهير القلماوي ، قال أبي : إنها تلميذة طه حسين هو الذي شجعها ، وهي أول مصرية تدخل الجامعة .

 حين دخلت الجامعة سألت عنها ، قالوا إنها في كلية الآداب ، وكنت أنا في كلية الطب ، لم أعرف الطريق إليها ، كانت أستاذة كبيرة ومعروفة وأنا في أول الشباب ، تخرجت طبيبة وبدأت أكتب الأدب ، نشرت بعض القصص القصيرة ، وأول رواية طويلة " مذكرات طبيبة " ظهرت على حلقات في مجلة " روز اليوسف " ، في يوم دق جرس التلفون في بيتي ، جاءني الصوت القوي الممتليء الذي سمعته في الراديو منذ عشرين عاما :

" أنا سهير القلماوي قرأت روايتك في مجلة " روز اليوسف " وأعجبتني واصلي الكتابة يا نوال ..

كانت لحظة في حياتي لا أنساها ، كان صوتها الوحيد بين النساء المعروفات حيئنذ الذي جاءني ، كلماتها شجعتني على الكتابة وملأتني بالأمل ، كان أبي يقول " كلما ارتفع الإنسان تواضع " ، كانت سهير القلماوي في قمتها الأدبية ، وكنت أنا في أول حياتي ، رفعت سماعة التلفون وكلمتني ، لم تستغرق المكالمة إلا دقيقة أو نصف دقيقة ، إلا أنها بقيت في ذاكرتي أربعين عاما .

إن سهير القلماوي مثل طه حسين أحد الأعمدة الثقافية والأدبية في بلادنا ، يجب ألا تندثر أعمالها بوفاتها ، فما أسهل أن تندثر الرائدات من النساء .

إن الرواد من الرجال مثل طه حسين يجدون بعض الاهتمام من الحركة الثقافية والأدبية في بلادنا ، فهي حركة يغلب عليها الرجال بحكم التاريخ والقوة السياسية ، ولا تزال الحركة الثقافية النسائية هامشية ، تغلب عليها الصراعات الحزبية ، تميل إلى التضحية بقضية المرأة من أجل القضايا الأخرى ، لهذا السبب اندثرت أعمال الكثيرات من الرائدات المصريات ، في حياتهن وبعد موتهن .

سهير القلماوي لها مؤلفات وتستحق الاهتمام ، سواء اختلفنا معها أو اتفقنا ، إنها جزء من التاريخ لابد أن تعرفه الأجيال المتعاقبة .

كانت سهير القلماوي صديقتي وكنت أختلف معها في الرأي حول أمور كثيرة ، إلا أن هذا الاختلاف هو أساس التطور والنمو والإبداع ، وهو أساس الصداقات الإنسانية الأدبية القوية ، هذه الصداقات تنشأ بين الأنداد ذوي الرأي ، وليس بين الإمعات التابعين للآخرين ، وكانت سهير القلماوي تحترم الرأي المخالف ، لأنها كانت تحترم رأيها ونفسها ، لم تتأرجح سهير القلماوي بين التيارات المسيطرة ، حافظت على مبادئها وإن دخلت في نزاع مع ذووي السلطة ، ولم تكن مثل غيرها الذين عاشوا في كل العهود وتربعوا على عرش الثقافة والأدب والمرأة .

هل يمكن لوزارات الثقافة والتعليم والإعلام أن تبذل الجهود لتعريف الشباب والشابات في مصر بأعمال سهير القلماوي ؟! لها كتاب بعنوان " أحاديث حدتي " يمكن أن يدخل المدارس ويقرأه الأطفال من الأولاد والبنات ، ربما تتشجع البنات المصريات على مقاومة الردة الثقافية ، لا يزال تاريخ سهير القلماوي وأعمالها مجهولة عند الأجيال الجديدة في بلادنا ، أخشى أن تندثر تماما بوفاتها كما حدث لنساء غيرها ، فالضربات لا تزال توجه إلى الحركة النسائية في بلادنا تحت أسماء ومسميات دينية أو سياسية ، ولا يزال أعلب المؤرخين من الرجال الذين يهتمون بالرواد أكثر من الرائدات ، لا يزال عدد المؤرخات من النساء قليلا يعد على الأصابع ، تنشغل معظمهن بالكتابة عن الرواد من الرجال .

فهل يمكن أن تتبنى الحركة النسائية المصرية مشروعا جديدا لإحياء تاريخ الرائدات المصريات ، ومنهن الدكتورة سهير القلماوي ؟! أرجو ذلك للأبد .

المقال منشور في جريدة الإهرام ، إصدار 7 مايو 1997 .


زوار مجرتي

free counters
تعريب وتطوير حسن